ولما وصلته حركت منه كل ساكن, وتزعزعت منه للمراجعة قوائم تلك المساكن, فكتب لي ما نصه:

أنظمك في جيد الطروس أم الدر؟   أم النيران الزاهرات أم السحر؟
وفكرك أملى ما نراه مسطرا   أم الجدول الزخار فاض أم البحر؟
كذاك يصاغ القول للشعر حلية   وإلا فلا نظم يقال ولا نثر
تنكب عن عون المعاني بلاغة   فلم يات معنى إلا وهو له فكر
كأنه بدع للبديع فلفظه   يتيه به شطر ويزهو به شطر
إذا نقشت أبياته في صحيفة   حسبنا لحسن سبكها أنها تبر
تقول ولكن للبيب إشارة   إذا حليت ثم استقل بها سطر
تجانس وصف قائلي ومداده   فذاك له حبر, وهذا له حبر
تود قصيرات المجال لو انه   بأعناقها مكان أعلاقها در
ولو علقته في النحور قلائدا   لما احتاج للعقيان من نحرها سحر
يضوع شذاه للأنوف كأنه   رياض من الأزهار نم بها نشر
وهبك كتمت أو سكت نزاهة   أيخفى ذكي المسك والعنبر الشحر
أبا القاسم بن العالم العلم الذي   جرى في أقاليم البلاد له ذكر
سعيد العميري الذي لم يجاره   إلى غاية العلياء زيد ولا عمرو
فما قصبات السبق إلا لفهمه   إذا استن للأحبار في معضل فكر
ولا ترفع الرايات إلا لعلمه   ولا ينتهي في الرأي إلا له الأمر
فأنت له فيما اقتنى خير وارث   كأن لم يغب عنا ولم يحوه قبر
وإن غاب عنا العلم من صدر والد   فقد حازه من بعده ولد صدر
ولا عجب إن قيل أنت تفوقه   فإن ضياء الشمس يسبقه الفجر
تسل عن الهم المبرح بالحشى   فرب عسير كان في طيه يسر
وإن جاء عباس من الخطب هائل   ففي إثره الضحاك يعقبه بشر
وإن لفكم جور من الدهر برهة   فلا بد بعد اللف أن يحصل النشر
كذا وعد الرحمان والوعد صادق   كأن قد أتاك الفتح وانبعث النصر
وللنكبات والنوائب غاية   يبلغها مني التجلد والصبر
وهل هو في العقيى لمن بات حاليا   بحليته إلا المثوبات والأجر
حللتم محل الأنس من كل جانب   وبنتم فبان الصبر واشتعل الجمر
وليس بغدر ما فعلتم وإنما   جرى قدر بالبين فاتضح العذر
ولولا عقيدة الإيمان ونورها   سخطنا وقلنا بئس ما فعل الدهر
غدا يجمع الأحباب جمع سلامة   وعما يعط عهدا إلا في طيه غدر
نعوذ برب الناس من شر حاسد   ومن شر وصل في عواقبه هجر
وإن تفترق أجسادنا فقلوبنا   مؤلفة ما دام يجمعها صدر
ضمان على الأيام تجمع شملنا   على صحة حتى يقوم له جبر

فأجبته

تقاصر في الإحسان عن نظمك الدر   ومن دون ترصيع به الأنجم الزهر
تعرف عراف القريض بعرفه   شذى طاب إلا أن عنبره شحر
وسلى على البلباب نافث سحره   بطرسك إلا أن بابله شعر
نزعت إلي حسن بنظم تظاهرا   به ساحران للنهى الطرس والسطر
قواف تجلت للخليل ووزنه   وحسن من حسانها النظم والنثر
وجر بها ذيل الكمال جريرها   فغاظ سجول الموصلي ذالك البحر
تباهي زهيرا في مزينة والبها   بمصر وليلياته ما بدا فجر
فلو نافست بدع البديع ولامست   حرير الحريري ما جرى لهما ذكر
ولو نالها والي الكتيبة ما بدا   بها للوا الإنشاء طي ولا نشر
ولو وصلت يوما لمنطق واصل   تكلف نطق الراء من فمه الثغر
متى زهرت بالنيران منازل   وشبهتها فالشمس نظمك والنثر
يرى الفتح لو أن القلائد قلدت   فوائدها ما راق من دونها نحر
وما زهر رياض يحاكي مثيلها   ولو زانه لون ونم به نشر
ولا عجب أن حاك وشي بديعها   قريحة صدر لايقاس به صدر
زهت ب (الحميدي أحمد بن محمد)   محامده لا بعد أحمدها شكر
تسلم (أبا سلام) السلم من أذى   زمان توالى حاله الكسر والجبر
وفي طي ما أبلى به الدهر صحبتي   سيادتك العليا وقد يحسن الدهر
فلا اختشي من فعله عملا فقد   تعلق عنه حيث كان لك الصدر
وفيت على بعد ومثلك من وفى   يوافيك ما يرجوه سرك والجهر
وشفعت إحسانا بحسن رسالة   بعثت بها ياحبذا الشفع والوتر
وآسيت من هم به المرء يلتظي   ولله فينا علم غيب له سر
ولا شك أن الحال ما قال ربنا   مع العسر يسر لا محالة والأجر
ولي أمل في الله أرجو نفوذه   قريبا, فأما الصبر لم يبق لي صبر
على أن لي بالله جل جلاله   كريم جوار لايخاف به ضر
ولست بما جادت به اليوم فكرتي   أجاريك فيما صاغ ناصعه الفكر
وما قنعت نفسي بنظم نفائس   تنافس فيها سادة قادة غر
وإن قصرت بي عن جوابك همة   فمنك –وقيت الهم- يلتمس العذر
فكيف ولي قلب تقسم فانثنى   لمكناسة شطر وعندكم شطر
وإني لأرجو الله فيما رجوته   إلينا , ألا لربنا الخلق والأمر