بقلم الشاعر
عرفت أنني ولدت في باريس . وباريس مازال لها مكانة خاصة لدي عبدالرحمن بن مساعد . في السنة الأولي من الولادة (بعد شهرين تقريبا) .. انتقلت مع العائلة إلي بيروت . وفي هذا المكان اختزنت الكثير من الذكريات . أذكر جيدا أننا سكنا أنا و أبي و أمي و أخوتي في شقة متوسطة المستوي والحجم . هذا المكان يشحن الذاكرة بالكثير من البدايات وأطياف الطفولة .
بدأت المرحلة الدراسية , انتظمت في مدرسة تعتمد في تعليمها الأساسي علي الجانب الإسلامي , والدي كان ومازال يهمه هذا الجانب , يهمه أن ينمي فينا الجانب الديني , ويعتبره عمود العلم .
ولم يكتف والدي أطال الله في عمره بالاعتماد علي المدرسة , بل أخذ يدرسنا الدين الإسلامي بكثافة , من خلال حلقات دورية ولم يكن وجودنا في الخارج فقط هو الذي دفعه إلي هذا الحرص , بل لإن منهج حياته قائم علي هذا الجانب.
كان والدي يدرسنا بحزم , ولكن بلا قسوة , ويعلمنا بشدة لكن بلا ضرب , كان مثلا لا يقبل الخطأ اللغوي , وأي خطأ في التشكيل يعتبره جريمة كبري تستحق العقاب , خاصة وأنه فصيح اللسان , ويمكن أن يلقي خطبة كاملة مدتها نصف ساعة دون أن يلحن .
حفظت القران صغيرا , وأفادني ذلك كثير , في ثقافتي وفي تربيتي , ولغتي وكذلك أخوتي .
بعد ثلاث سنوات تقريبا من دراستي في بيروت , قرر الوالد العودة بنا إلي الرياض , وكان الرحيل لأفارق ما يسمونها (مرابع الطفولة) .. وأعود إلي الوطن .
وأكبر تحوُل حدث في حياتي بعد الانتقال هو اكتشافي أنني (أمير) , لم يخطر في بالي يوما من قبل أن أكون في مثل هذه المكانة الاجتماعية , فالحياة التي عشتها سابقا تخلو من المميزات . ولكن طريقة الاستقبال , ثم المعاملة بعد ذلك أوحت إلي أنني أتمتع بمكانة خاصة , ثم علمت تدريجيا ماذا تعني كلمة (أمير) .. ما هي تبعاتها الاجتماعية ومسؤولياتها ¿ .. وعرفت بعد ذلك أن لي جدا عظيما تتحدث عنه أقاصي الدنيا هو الملك (عبدالعزيز) - طيب الله ثراه- الذي سمعت ودرست سيرته العظيمة , وسكنت تتردد في عقلي .. ولم أستطع ترجمتها حتي أتيحت لي فرصة كتابة أوبريت الجنادرية , فوضعت الكثير من أفكاري في (كتاب مجد بلادنا) .
ولكن اكتشافي أنني أمير لم يخلُ باتزاني , ولم يدفعني لاستخدام صلاحيات لم تكن متوفرة لدي , فأنا أساسا عشت حياة بسيطة لم أحب أن أفرط بها , ولم أضغط علي نفسي لأتعامل مع الأخرين برسمية أو تكلف , تمسكت بحياتي السابقة, وتعلمت الاندماج بالأخرين أفضل من الابتعاد عنهم بحجة الوجاهة أو الاحتفاظ بالمنصب, أو القيمة الاجتماعية .. فالقيمة وجدتها ترتفع وتزداد كلما اقتربت من الناس, وفي الرياض كان الاحترام واضحا لمكانة الإنسان الاجتماعية.
علاقتي بأخوتي .. عميقة إلي درجة تستعصي علي التعبير, وفي الوقت نفسه هي وطيدة إلي درجة لا تحتاج إلي تعبير, فكل منا يعرف مشاعر الأخر تجاهه دون أن يقول, إذا رجع أخي عبدالله من السفر .. لا أسلم عليه بالأحضان والقبل .. فقط (يمسيك بالخير يا عبدالله ويعرف هو من دون أن أعبر له أنني افتقدته في الأيام الماضية واشتقت لوجوده بيننا, فالعلاقة ثابتة ولا تحتاج إلي تصنع .
بانتقالي إلي الرياض وجدت وتيرة الحياة تسير بشكل أفضل وأعطتني الإحساس بالاستقرار والثبات, رغم أنني افتقدت وتيرة حياة عشتها, لكنني لم أتحسر عليها, الرياض أعطتني الإحساس بالأمان والقوة, وبيروت أعطتني الإحساس بالاختلاف, وحفزت مشاعري, وضختني بالمشاغبة. كنت في المدرسة متفوقا , ولكنني أهوي المقالب.
أتذكر أنني لا أحب حصة الرسم, لأنني لا أجيد هذا الفن , وفي إحدي الحصص فشلت في رسم ما طلبته منا المدرسة فقمت بسكب المحبرة علي ورقتي , لكي أخفي رسمي السيئ . ثم أخبرت المدرسة أن زميلتي (أمل) التي تجلس بجانبي سكبت المحبرة علي ورقتي, فنالت (أمل) العقاب .. ونفذت أنا !!
كنت متفوقا في دراستي, واستمر التفوق عندما كبرت ولكن بتقدير أقل, فالتفوق لم يصبح هدفا بقدر هدف الاستمتاع بالحياة.
في بداية دراستي في الرياض واجهت صعوبة في التأقلم وتغيُرت أجواء الدراسة لديُ خاصة وأنني كنت في بيروت ادرس في مكان مختلط .. أما فقدت فيها ذلك الاختلاط بين الطرفين.
ولكنني تأقلمت بسرعة, لأنني كما أعتقد إنسان اجتماعي بطبيعتي.
لذلك أقول أقول أنني عشت طفولة طبيعية جدا, استمتعت بكل ما فيها علي قدر ما سمحت به الظروف, وتفوقت وكوُنت علاقات جيدة, وكان أخي عبدالله يمثل قدوة لي, في قراءته, وشخصيته, كذلك أمي التي لعبت دورا مهما في تكوين شخصيتي .. فقد كانت تعاملنا بلطف وحزم في الوقت ذاته, تدللنا ولكنها لا تتساهل معنا, سواء في الدراسة أو التصرفات اليومية.
في طفولتي أحببت القراءة, قرأت ديوان المتنبي, وأبي كان حريصا علي تنمية هذا الجانب, درسنا القرأن وحفظته, كذلك تفسير ابن كثير والتاج والأحاديث .. هذه مسلمات في القراءة لابد منها, ويكون التنويع في المجالات الأخري. وفي رمضان خاصة تزداد قراءة القران بتشجيع من الوالد.
وبعد القرأن, بدأ اهتمامي الشديد بالشعر, بدءا بالمتنبي الذي حفظت الكثير من أشعاره فأصبحت أقرأ كل ما يقع تحت يدي.
وعندما بلغ عمري السابعة عشر, بدأت القصائد الشعبية تشدني.
عرفتها من خلال الأغاني, كانت ثقافتي عربية أكثر منها خليجية, في الأغنية لا أسمع إلا أم كلثوم وعبدالوهاب وفيروز .. ولكن قصائد بدر بن عبدالمحسن شدتني, فبدأت أتابع له بكثافة, لم يكن له ديوان ولكنني أقرأ كل ما ينشره.
بدر بن عبدالمحسن بالنسبة لي شيء عظيم, وهو الذي دفعني للكتابة, رغم أنني كنت أكتب بالفصحي, وأول قصيدة كتبتها بالفصحي عرضتها علي مدرس العربي, فقال لي : إن معانيها جيدة, لكنها غير موزونة.
كان الوزن عائقا أمامي, لكنني تجاوزته, لأنني أملك أذنا موسيقية تكشف الخلل, فالموسيقي موجودة في حياتي بشكل أو بأخر, فأي وزن أحفظه أتمكن منه, وإن كان عندي قناعة أن الشعر هو فكر أكثر من وزن, لذلك لم يعد الوزن هو همي في الكتابة.
أتذكر أن التحول من كتابة الفصيح إلي العامي بدأ عندما أحببت لأول مرة, أحسست أن التي أحبها لن تفهم الفصيح ..
لكن هناك شيئا غريبا .. هو أنني لا أذكر متي خفق قلبي لأول مرة, ولمن ¿ لا أعرف من هي أول حبيبة في حياتي .. تخيلوا ¿!
ربما لأنني كنت أحب الحالة نفسها, وليس المرأة, ربما كنت أرغب أن أكون معذبا, فكانت البداية من هذا المنطق, وشعرت أنني يوما سأكون شاعرا جيدا.
استمريت في كتابة القصائد العامية .. حتي عرفني الجمهور من خلاله
|